إن محاكمة صحفي شجاع في إندونيسيا، مسألة لها معانٍ ضمنية، تتجاوز بكثير حدود المحكمة التي تحاكم ذلك الصحفي في جاكرتا. فعندما يظهر هذا المقال، ستكون محكمة مقاطعة وسط جاكرتا، قد قامت بإصدار حكمها في القضية المرفوعة ضد "بامبانج هاريمورتي"، رئيس تحرير مجلة "تيمبو" كبرى مجلات إندونيسيا الإخبارية، واثنين من زملائه. وأتمنى من صميم قلبي، أن يسود العقل والمنطق تلك المحاكمة، التي يجب على هيئتها أن ترفض تلك القضية التي ما كان يجب رفعها في الأصل. ولكن حقيقة أن تلك القضية قد رُفعت بالفعل، تمثل في حد ذاتها تهديداً للحرية والديمقراطية، اللتين تمتعت بهما إندونيسيا منذ سقوط حكومة الجنرال سوهارتو منذ ستة أعوام خلت.
وكانت الحكومة الإندونيسية قد وجهت للصحفي "بامبانج"، واثنين من زملائه في المجلة تهمة القذف وتشويه السمعة الجنائي. وترجع خلفيات تلك القضية، إلى تقرير صحفي ظهر في مجلة "تيمبو"، وجاء فيه أن الحريق المشكوك فيه الذي وقع في أحد أسواق جاكارتا التجارية في فبراير 2003، قد تكون له علاقة بالخطط الرامية لإنشاء سوق تجاري فاخر محله.. وهي خطط لها صلة برجل أعمال إندونيسي ثري يدعى "تومي ويناتا".
وإثر ذلك قام رجل الأعمال المذكور برفع قضية قذف مدنية ضد المجلة. كما قامت الحكومة- في سابقة غير مألوفة- بتوجيه تهمة القذف وتشويه السمعة الجنائي إلى رئيس تحرير المجلة، واثنين من زملائه مستندة في ذلك على قانون قديم يعود إلى فترة الحكم الهولندي لإندونيسيا وبدايات الاستقلال. وطالبت النيابة في مرافعتها بإنزال عقوبة السجن لمدة سنتين ونصف برئيس التحرير وزميليه، بل وطالبت أيضاً بأن يتم احتجاز السيد "بامبانج" فوراً، وهو ما يعني معاملته كمجرم خطر يجب ألا يبقى مطلق السراح حفاظاً على أمن المجتمع.
ويهمني هنا أن أكشف أنني أعرف السيد "بامبانج" منذ 20 عاماً تقريباً.. فقد تعرفت عليه عن قرب في أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كنت أشغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى إندونيسيا في ذلك الوقت. وأشهد أن الرجل يتمتع بقدر هائل من النزاهة، وأنه شخص يقوم بأداء أية مسؤولية يكلف بها بقدر كبير من الجدية، ليس فيما يتعلق بنشر الحقيقة فقط، ولكن فيما يتعلق أيضاً بالامتناع عن نشر الزيف والأكاذيب. وهو بالإضافة إلى ذلك رجل مسلم، لم يتردد لحظة واحدة في شجب الإرهاب والتطرف في المقالات الافتتاحية التي كان يكتبها في مجلته.
ولكن اهتمامي بشأن قضية "بامبانج" لا يرجع فقط إلى اهتمامي بمصير صديق عرفته عن قرب، وإنما يتعدى ذلك إلى الاهتمام بمصير الديمقراطية في إندونيسيا.. والتي أعتقد اعتقاداً راسخاً أن العالم كله سيكون له نصيب من الفوائد التي ستترتب على نجاحها في هذا البلد.
وإذا ما تمكنت إندونيسيا التي يبلغ عدد سكانها 240 مليون نسمة، والتي تعتبر أكبر دولة إسلامية في العالم (يشكل سكانها 15 في المئة من إجمالي المسلمين في العالم)، من إثبات قدرتها على تطوير المؤسسات الديمقراطية بها، على الرغم من المصاعب الاقتصادية الرهيبة التي تواجهها، فإنها ستمثل حينئذ نموذجاً قيماً بالنسبة للكثير من دول العالم. وهذا قول لا مبالغة فيه، خصوصاً إذا ما عرفنا أن إندونيسيا تتمتع بتقاليد قوية في مجال التسامح الديني، على الرغم من أن 90 في المئة من سكانها من المسلمين، وهو ما يجعل منها نموذجاً للدول صاحبة الأدوار المهمة، في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وليس من قبيل الصدفة أن المتعصبين الإرهابيين المرتبطين بتنظيم القاعدة، قد قاموا بشن العديد من الهجمات ضد إندونيسيا، حتى في الفترات التي سبقت التفجيرات البشعة التي وقعت في (بالي) في أكتوبر 2002، وأن هذه الهجمات قد استمرت منذ ذلك الحين حتى كان آخرها ذلك الذي وقع الأسبوع الماضي فقط.
لقد حققت إندونيسيا تقدماً يدعو للإعجاب في مجال تطوير المؤسسات الديمقراطية، على الرغم من الظروف الاقتصادية الكارثية، التي ورثتها حكومتها، والتي تزامنت مع الانهيار المالي الذي صاحب سقوط ديكتاتورية سوهارتو. والدليل على ذلك التقدم هو أن إندونيسيا قد قامت بتنظيم انتخابات نزيهة عام 1999، كما قامت بتنظيم انتخابات برلمانية في إبريل الماضي، وهي على وشك القيام بتنظيم ملحق انتخابي يوم الاثنين القادم لاستكمال ثاني انتخابات ديمقراطية رئاسية تجرى في البلاد. وهي كلها إنجازات ليست بالهينة بأي حال من الأحوال.
وعلى الرغم من أن تنظيم انتخابات رئاسية ديمقراطية لمرتين متواليتين يعد علامة أكيدة على التقدم الديمقراطي الحاصل في إندونيسيا، إلا أن المحك الحقيقي للديمقراطية في رأيي، هو قدرتها على حماية حقوق المواطنين في الدولة. فإعلان الاستقلال الأميركي مثلا لا يتحدث عن الانتخابات، ولكنه يتحدث عن حق البشر أجمعين في التمتع بحقوق ثابتة لا تـُمس مثل حقهم في الحياة، والحرية، والبحث عن السعادة. ومن ضمن المبادئ الجوهرية التي يتضمنها الدستور الأميركي، المبدأ الخاص بأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال، حرمان المواطنين